ثلاثية الأبعاد
صورة للأستاذ كمال اليحياوي
(1) يعيش واحد أو أكثر ، لست أدري ، كم العدد بالضبط من أولئك الملاعين في ثنايا جسدي ، ولكل زمان ملاعينه و فراعـــــــــنته و جلادوه الذين تفننوا بكل ألاعيب الحواة والسحرة والكــــهنة في التنكيل والتشويه والتصفية الجسدية ، تنبعث هذه الكلمات والعبارات من أعماق" عمي صالح " يتقطع صوته من حين لآخر بزفرات وآهات ، ويمسح بيديه المرتعشتين وقد لاحت علامات الكـــــــــي والاحتراق على ظاهرهما ، وكلما بسطهما ، انقطعت أنفاسه للحظات ، ينظر إليهما كما لو كانــــــــتا مرآة من شقين تعكس حقيقة أمره ، يبللهما ويمسح بهما، عَّل التبرك بهما ينسيه أوجاعهــــــــــــما ، كنت وأنا اجلس القرفصاء أمامه ، لا ينظر إلا إلى الجبل الشامخ من ورائي ، يستلهم منه ذكرياتــــه البطولية ، وكلما حرك يديه يلوح بالإشارة إلى مكان بالجبل ، إلا ولاحت على معصميه آثار أســــــاور الأسلاك الشائكة والحبال الممسودة ، تظهر وكأنها أخاديد مسودة ، يتشرف بإظهارها ولا يـــتورع أن يخفيهما ، فهما ذكريات مجيدة ، وذكريات مؤلمة ، أبكتني وآلمتني نبراته المتهدجة ، ومنظر دموعــه التي تتفجر بتؤدة من بؤبؤي عينيه اللتين طالهما سوء العناية والرعاية، وكأن كل واحدة منــــــــها ، تحكي عن سنوات التعذيب ، والتنـكيل ، والاستبداد ، والتسلط ، والتغطرس ، والتجبر، والتظـــــلم ، والجوع ، والعطش ، و المهانة ،، من داخل ذلك القبر النائي ، عشنا و جماعة من الرجال ما لاأتــمناه لك ولأمثالك في العهد الثالث ، والرابع ، والخامس ــ حتى كاد يغمى عليه ــ في هذا الموقع غـــــــير النافـع ، تملكني الصمت ، واقشعرت أطرافي ، وخرس لساني عن الكلام ، تركته يروي لي بـــغير أن أدون ، أحفظ عنه كل حرف ، وكل كلمة بمعناها ودلالتها، وكل عبارة بذكراها وجمالية تعبيرها ، لــــم يكن يعرف قراءة ولا كتابة ، ولكنه في ذلك الغار/ المحبس النائي ، الذي لم يكن أحد يقو على ذكــــــر اسمه ، أو يقترب من مكانه ، أو يحدد معالمه ، تعلم البيان ، وفصاحة اللسان ، علمه الرجال كـــــيف يصنعون المجد والتاريخ ، علموه كيف يبني الرجال أوطانهم ، علموه كيف يضــــحي الأفذاذ بالأرواح من أجل الحرية والانعتاق ، علموه أن النضال الشريف شريعة الحياة الشريفة ،، هكذا كان لسان حاله ينطق بما فيه ، " عمي صالح " الرجل الصالح ، الدرس النافع في الموقع غير النافع ، هو الآن بيننا يعيش بذكرياته المجيدة ، والمؤلمة ، رمز التضحية والفداء ، في ذاكرتنا يسكن كل هؤلاء الرجال ،،، ونعم الرجال ، لائحتهم تطول ، تحفظها القلوب ، وتأبى نسيانها النفوس ، وعلى جدران مدائنــــــــــنا الحمراء و"قصورنا" البسيطة الفيحاء ، سنخلد هؤلاء الرجال العظماء ... ترقبوا : الخطوة الثانية في العهد الثاني في الجبل النائي